فصل: تفسير الآية رقم (260)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ أَلَمْ تَرَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ رَبِّ أَرِنِي‏.‏ وَإِنَّمَا صَلُحَ أَنْ يَعْطِفَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏}‏ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ‏}‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏أَلَمْ تَرَ‏)‏ لَيْسَ مَعْنَاهُ‏:‏ أَلَمْ تَرَ بِعَيْنَيْكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ‏:‏ أَلَمْ تَرَ بِقَلْبِكَ، فَمَعْنَاهُ‏:‏ أَلَمْ تَعْلَمْ فَتَذْكُرُ، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ “ الرُّؤْيَةِ “ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا بِمَا يُوَافِقُ لَفْظَهُ مِنَ الكَلَامِ، وَأَحْيَانًا بِمَا يُوَافِقُ مَعْنَاهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُالتَّأْوِيلِ فِي سَبَبِ مَسْأَلَةِ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ ذَلِكَ رَبَّهُ، أَنَّهُ رَأَى دَابَّةً قَدْ تَقَسَّمَتْهَا السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِهِ إِيَّاهَا، مَعَ تَفَرُّقِ لُحُومِهَا فِي بُطُونِ طَيْرِ الْهَوَاءِ وَسِبَاعِ الْأَرْضِ لِيَرَى ذَلِكَ عَيَانًا، فَيَزْدَادَ يَقِينًا بِرُؤْيَتِهِ ذَلِكَ عَيَانًا إِلَى عِلْمِهِ بِهِ خَبَرًا، فَأَرَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ مَثَلًا بِمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زَرِيعٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى‏}‏ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ خَلِيلَ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ تَوَزَّعَتْهَا الدَّوَابُّ وَالسِّبَاعُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمَ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطَمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏‏.‏

حُدِّثْنَا عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى‏}‏ قَالَ‏:‏ مَرَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَى دَابَّةٍ مَيِّتٍ قَدْ بَلِيَ وَتَقَسَّمَتْهُ الرِّيَاحُ وَالسِّبَاعُ، فَقَامَ يَنْظُرُ، فَقَالَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ‏!‏ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ هَذَا‏؟‏ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ‏:‏ فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بَيْنَا هُوَ يَسِيرُ عَلَى الطَّرِيقِ، إِذَا هُوَ بِجِيفَةِ حِمَارٍ عَلَيْهَا السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ قَدْ تَمَزَّعَتْ لَحْمَهَا، وَبَقِيَ عِظَامُهَا‏.‏ فَلَمَّا ذَهَبَتِ السِّبَاعُ، وَطَارَتِ الطَّيْرُ عَلَى الْجِبَالِ وَالْآكَامِ، فَوَقَفَ وَتَعَجَّبَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ رَبِّ قَدْ عَلِمْتُ لَتَجْمَعَنَّهَا مِنْ بُطُونِ هَذِهِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ‏!‏ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى‏!‏ قَالَ‏:‏ أَوَلَمَ تُؤْمِنْ، قَالَ‏:‏ بَلَى‏!‏ وَلَكِنْ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ مَرَّ إِبْرَاهِيمُ بِحُوتٍ نِصْفُهُ فِي الْبَرِّ، وَنِصْفُهُ فِي الْبَحْرِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ فَدَوَابُّ الْبَحْرِ تَأْكُلُهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْبَرِّ فَالسِّبَاعُ وَدَوَابُّ الْبِرِّ تَأْكُلُهُ، فَقَالَ لَهُ الْخَبِيثُ‏:‏ يَا إِبْرَاهِيمُ، مَتَى يَجْمَعُ اللَّهُ هَذَا مِنْ بُطُونِ هَؤُلَاءِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى‏!‏ قَالَ‏:‏ أَوَلَمَ تُؤْمِنْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى‏!‏ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏!‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ كَانَ سَبَبَ مَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ ذَلِكَ، الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُحَاجَّةُ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُمْرُوذَ فِي ذَلِكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ لَمَّا جَرَى بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ قَوْمِهِ مَا جَرَى مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ فِي “ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ“، قَالَ نُمْرُوذُ، فِيمَا يَذْكُرُونَ، لِإِبْرَاهِيمَ‏:‏ أَرَأَيْتَ إِلَهَكَ هَذَا الَّذِي تَعْبُدُ وَتَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ، وَتَذْكُرُ مَنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تُعَظِّمُهُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، مَا هُوَ‏؟‏ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏!‏ قَالَ نُمْرُوذُ‏:‏ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ‏!‏ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ كَيْفَ تُحْيِي وَتُمِيتُ‏؟‏ ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ مُحَاجَّتِهِ إِيَّاهُ قَالَ‏:‏ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ ذَلِكَ‏:‏ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ‏:‏ أَوَلَمَ تُؤْمِنْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَلَا فِي قُدْرَتِهِ، وَلَكِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ وَتَاقَ إِلَيْهِ قَلْبُهُ فَقَالَ‏:‏ “لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي“، أَيْ‏:‏ مَا تَاقَ إِلَيْهِ إِذَا هُوَ عَلِمَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ-أَعْنِي الْأَوَّلَ وَهَذَا الْآخَرَ- مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى فِي أَنَّ مَسْأَلَةَ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، كَانَتْ لِيَرَى عَيَانًا مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ خَبَرًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ ذَلِكَ رَبَّهُ عِنْدَ الْبِشَارَةِ الَّتِي أَتَتْهُ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ عَاجِلًا مِنَ العَلَامَةِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِأَنَّهُ قَدِ اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ خَلِيلًا وَيَكُونَ ذَلِكَ لِمَا عِنْدَهُ مِنَ اليَقِينِ مُؤَيِّدًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا سَأَلَ مَلَكَ الْمَوْتِ رَبَّهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يُبَشِّرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَأَتَى إِبْرَاهِيمَ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ، فَدَخَلَ دَارَهُ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَغْيَرَ النَّاسِ، إِنْ خَرَجَ أَغْلَقَ الْبَابَ فَلَمَّا جَاءَ وَوَجَدَ فِي دَارِهِ رَجُلًا ثَارَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، قَالَ‏:‏ مَنْ أَذِنَ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ دَارِي‏؟‏ قَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ‏:‏ أَذِنَ لِي رَبُّ هَذِهِ الدَّارِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ صَدَقْتَ‏!‏ وَعَرَفَ أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ‏.‏ قَالَ‏:‏ مَنْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ جِئْتُكَ أُبَشِّرُكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدِ اتَّخَذَكَ خَلِيلًا‏!‏ فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ‏:‏ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، أَرِنِي الصُّورَةَ الَّتِي تَقْبِضُ فِيهَا أَنْفَاسَ الْكُفَّارِ‏.‏ قَالَ‏:‏ يَا إِبْرَاهِيمُ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ بَلَى‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَعْرِضْ‏!‏ فَأَعْرَضَ إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ بَرَجُلٍ أَسْوَدَ تَنَالُ رَأْسُهُ السَّمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ لَهَبُ النَّارِ، لَيْسَ مِنْ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ إِلَّا فِي صُورَةِ رَجُلٍ أَسْوَدَ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ وَمَسَامِعِهِ لَهَبُ النَّارِ‏.‏ فَغُشِيَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَفَاقَ وَقَدْ تَحَوَّلَ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَقَالَ‏:‏ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، لَوْ لَمْ يَلْقَ الْكَافِرُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنَ البَلَاءِ وَالْحُزْنِ إِلَّا صُورَتَكَ لَكَفَاهُ، فَأَرِنِي كَيْفَ تَقْبِضُ أَنْفَاسَ الْمُؤْمِنِينَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَأَعْرِضْ‏!‏ فَأَعْرَضَ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا هُوَ بَرَجُلٍ شَابٍّ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبَهُ رِيحًا، فِي ثِيَابٍ بِيضٍ، فَقَالَ‏:‏ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ رَبِّهِ مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ وَالْكَرَامَةِ إِلَّا صُورَتَكَ هَذِهِ، لَكَانَ يَكْفِيهِ‏.‏

فَانْطَلَقَ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَقَامَ إِبْرَاهِيمُ يَدْعُو رَبَّهُ يَقُولُ‏:‏ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى حَتَّى أَعْلَمَ أَنِّي خَلِيلُكَ‏!‏قَالَ‏:‏ أَوَلَمَ تُؤْمِنْ بِأَنِّي خَلِيلُكَ‏؟‏ يَقُولُ‏:‏ تُصَدِّقُ قَالَ‏:‏ بَلَى‏!‏ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِخُلولَتِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ بِالْخُلَّةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ قَالَ ذَلِكَ لِرَبِّهِ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ أَيُّوبَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى عِنْدِي مِنْهَا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ يُحَدِّثُ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ‏:‏ اتَّعَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَجْتَمِعَا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَنَحْنُ يَوْمئِذٍ شَبَبَةٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ‏:‏ أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَرْجَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ‏؟‏ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ‏}‏‏.‏ ‏[‏الزُّمَرِ‏:‏ 53‏]‏ حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ‏.‏ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَمَّا إِنْ كُنْتَ تَقُولُ‏:‏ إِنَّهَا، وَإِنَّ أَرْجَى مِنْهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمَ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمَ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ دَخَلَ قَلْبَ إِبْرَاهِيمَ بَعْضُ مَا يَدْخُلُ قُلُوبَ النَّاسِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمَ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏{‏فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ‏}‏، لِيُرِيَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبَانَ الْمِصْرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ أَوَلَمَ تُؤْمِنْ‏؟‏ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ فَذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، مَا صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَهُوَ قَوْلُهُ ‏(‏‏:‏ “نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى‏؟‏ قَالَ أَوَلَمَ تُؤْمِنْ‏؟‏ “ » وَأَنْ تَكُونَ مَسْأَلَتُهُ رَبَّهُ مَا سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِعَارِضٍ مِنَ الشَّيْطَانِ عَرَضَ فِي قَلْبِهِ، كَالَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ آنِفًا‏:‏ مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لِمَا رَأَى الْحُوتَ الَّذِي بَعْضُهُ فِي الْبَرِّ وَبَعْضُهُ فِي الْبَحْرِ، قَدْ تَعَاوَرَهُ دَوَابُّ الْبَرِّ وَدَوَابُّ الْبَحْرِ وَطَيْرُ الْهَوَاءِ، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ‏:‏ مَتَى يَجْمَعُ اللَّهُ هَذَا مِنْ بُطُونِ هَؤُلَاءِ‏؟‏ فَسَأَلَ إِبْرَاهِيمُ حِينَئِذٍ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، لِيُعَايِنَ ذَلِكَ عَيَانًا، فَلَا يَقْدِرُ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ مِثْلَ الَّذِي أَلْقَى فِيهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ‏.‏ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِنْ‏}‏‏؟‏ يَقُولُ‏:‏ أَوَلَمَ تُصَدِّقْ يَا إِبْرَاهِيمُ بِأَنِّي عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى يَا رَبِّ‏!‏ لَكِنْ سَأَلْتُكَ أَنْ تُرِيَنِي ذَلِكَ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فَلَا يَقْدِرُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُلْقِيَ فِي قَلْبِي مِثْلَ الَّذِي فَعَلَ عِنْدَ رُؤْيَتِي هَذَا الْحُوتَ‏.‏

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ لِيَسْكُنَ وَيَهْدَأَ بِالْيَقِينِ الَّذِي يَسْتَيْقِنُهُ‏.‏

وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ هُوَ تَأْوِيلُ الَّذِينَ وَجَّهُوا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ إِلَى أَنَّهُ‏:‏ لِيَزْدَادَ إِيمَانًا أَوْ إِلَى أَنَّهُ‏:‏ لِيُوقِنَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ لِيُوقِنَ أَوْ لِيَزْدَادَ يَقِينًا أَوْ إِيمَانًا‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ لِيُوقِنَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ‏.‏ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ لِيَزْدَادَ يَقِينِي‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِيَزْدَادَ يَقِينًا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ وَأَرَادَ نَبِيُّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ لِيَزْدَادَ يَقِينًا إِلَى يَقِينِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُعَمِّرٌ وَقَالَ قَتَادَةُ‏:‏ لِيَزْدَادَ يَقِينًا‏.‏

حُدِّثْنَا عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَزْدَادَ يَقِينًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ لِيَزْدَادَ يَقِينِي‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ لِيَزْدَادَ يَقِينًا‏.‏

حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحِبَابِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سَلِيمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ لِأَزْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِي‏.‏

حَدَّثَنَا صَالِحٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا زَيْدٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا زِيَادٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيِّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ لِأَزْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِي‏.‏

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى قَوْلَ مَنْ قَالَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ بِأَنِّي خَلِيلُكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ لِأَعْلَمَ أَنَّكَ تُجِيبُنِي إِذَا دَعَوْتُكَ، وَتُعْطِينِي إِذَا سَأَلَتُكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قَالَ‏:‏ أَعْلَمُ أَنَّكَ تُجِيبُنِي إِذَا دَعَوْتُكَ، وَتُعْطِينِي إِذَا سَأَلْتُكَ‏.‏

وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ‏}‏، فَإِنَّهُ‏:‏ أَوَلَمَ تُصَدِّقْ‏؟‏‏.‏ كَمَا‏:‏-

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏.‏

وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِنْ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَوَلَمَ تُوقِنْ بِأَنِّي خَلِيلُكَ‏؟‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِنْ‏}‏ قَالَ‏:‏ أَوَلَمَ تُوقِنْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ لَهُ‏:‏ ‏{‏فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ‏}‏، فَذَكَرَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ مِنَ الطَّيْرِ‏:‏ الدِّيكُ، وَالطَّاوُوسُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحَمَامُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ‏:‏ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ أَخَذَ طَاوُوسًا، وَدِيكًا، وَغُرَابًا، وَحَمَامًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ الْأَرْبَعَةُ مِنَ الطَّيْرِ‏:‏ الدِّيكُ، وَالطَّاوُوسُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحَمَامُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ‏:‏ ‏{‏قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ‏}‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ زَعَمُوا أَنَّهُ دِيكٌ، وَغُرَابٌ، وَطَاوُوسٌ، وَحَمَامَةٌ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَأَخَذَ طَاوُوسًا، وَحَمَامًا، وَغُرَابًا، وَدِيكًا‏;‏ مُخَالِفَةٌ أَجْنَاسُهَا وَأَلْوَانُهَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ بِضَمِّ الصَّادِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “صُرْتُ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ“‏.‏ إِذَا مِلْتُ إِلَيْهِ “ أَصُوَرُ صَوَرًا“، وَيُقَالُ‏:‏ “إِنِّي إِلَيْكُمْ لِأَصْوَرُ “ أَيْ‏:‏ مُشْتَاقٌ مَائِلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

اللَّـهُ يَعْلَـمُ أنَّـا فِـي تَلَفُّتِنَـا *** يَـوْمَ الفِـرَاقِ إلَـى أَحْبَابِنَـا صُـورُ

وَهُوَ جَمْعُ “ أَصْوَرُ، وَصَوْرَاءُ، وَصُوَرُ، مِثْلَ أَسْوَدَ وَسَوْدَاءَ وَسُوَدُ “ وَمِنْهُ قَوْلُ الطِّرِمَّاحِ‏:‏

عَفَـائِفُ إِلَّا ذَاكَ أَوْ أَنْ يَصُورَهَـا *** هَـوًى، والْهَـوَى للعَاشِـقِينَ صَـرُوعُ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ “أَوْ أَنْ يَصُورَهَـا هَوَى“، يُمِيلُهَا‏.‏

فَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ اضْمُمْهُنَّ إِلَيْكَ وَوَجِّهْهُنَّ نَحْوَكَ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ “صُرْ وَجْهَكَ إِلَيَّ“، أَيْ أَقْبِلْ بِهِ إِلَيَّ‏.‏ وَمَنْ وَجَّهَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، كَانَ فِي الْكَلَامِ عِنْدَهُ مَتْرُوكٌ قَدْ تُرِكَ ذِكْرُهُ اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ‏.‏ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ عِنْدَهُ‏:‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏، ثُمَّ قَطِّعْهُنَّ، ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏}‏‏.‏

وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ بِضَمِّ “ الصَّادِ“‏:‏ قَطِّعْهُنَّ، كَمَا قَالَ تَوْبَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ‏:‏

فَلَمَّـا جَـذَبْتُ الحَـبْلَ أَطَّـتْ نُسُوعُهُ *** بِـأَطْرَافِ عِيـدَانٍ شَـدِيدٍ أُسُـورُهَا

فَـأَدْنَتْ لِـيَ الأسْـبَابَ حَـتَّى بَلَغْتُهَـا *** بِنَهْضِـي وَقَـدْ كَـادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا

يَعْنِي‏:‏ يَقْطَعُهَا‏.‏ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَصُرْهُنَّ‏)‏، كَانَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ‏:‏ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ إِلَيْكَ فَصُرْهُنَّ وَيَكُونُ “ إِلَيْكَ “ مِنْ صِلَةِ “ خُذْ“‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ‏:‏ “فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ “ بِالْكَسْرِ، بِمَعْنَى قَطِّعْهُنَّ‏.‏

وَقَدْ زَعَمَ جَمَاعَةٌ مِنْ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ‏:‏ “فَصُرْهُنَّ “ وَلَا “ فَصِرْهُنَّ “ بِمَعْنَى قَطِّعْهُنَّ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ-وَأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كَسْرَ “ الصَّادِ “ وَضَمَّهَا فِي ذَلِكَ إِلَّا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ بِمَعْنَى “ الْإِمَالَةِ “ وَأَنَّ كَسْرَ “ الصَّادِ “ مِنْهَا لُغَةٌ فِي هُذَيْلٍ وَسَلِيمٍ ‏;‏ وَأَنْشَدُوا لِبَعْضِ بَنِي سَلِيمٍ‏:‏

وَفَـرْعٍ يَصِـيرُ الجِـيدَ وَحْـفٍ كَأَنَّـهُ *** عَـلَى الِّليـتِ قِنْـوَانُ الكُـرُومِ الدَّوَالِحِ

يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ “يَصِيرُ“، يَمِيلُ وَأَنَّ أَهْلَ هَذِهِ اللُّغَةِ يَقُولُونَ‏:‏ “صَارُوهُ وَهُوَ يَصِيرُهُ صَيْرًا “ “ وَصِرْ وَجْهَكَ إِلَيَّ“، أَيْ أَمِلْهُ، كَمَا تَقُولُ‏:‏ “صُرْهُ“‏.‏

وَزَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَصُرْهُنَّ‏)‏ وَلَا لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ‏:‏ “فَصُرْهُنَّ “ بِضَمِّ “ الصَّادِ “ وَكَسْرِهَا، وَجْهًا فِي التَّقْطِيعِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ “ فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ “ ‏!‏ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِكَسْرِ “ الصَّادِ “ مِنَ المَقْلُوبِ، وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ “ لَامُ “ فِعْلِهِ جُعِلَتْ مَكَانَ عَيْنِهِ، وَعَيْنُهُ مَكَانَ لَامِهِ، فَيَكُونُ مِنْ “ صَرَى يَصْرِي صَرْيًا“، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ “بَاتَ يَصْرِي فِي حَوْضِهِ“‏:‏ إِذَا اسْتَقَى، ثُمَّ قَطَعَ وَاسْتَقَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

صَـرَتْ نَطْـرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوْزَ دَارِعٍ *** غَـدَا وَالْعَـوَاصِي مِنْ دَمِ الْجَوْفِ تَنْعَرُ

“ صَرَتْ“، قَطَعَتْ نَظْرَةً، وَمِنْهُ قَوْلٌ الْآخَرِ‏:‏

يَقُولُـونَ‏:‏ إِنَّ الشَّـأَمَ يَقْتُـلُ أَهْلَـهُ *** فَمَـنْ لِـي إِذَا لَـمْ آتِـهِ بِخُـلُودِ

تَعَـرَّبَ آبَـائِي، فَهَـلَّا صَـرَاهُمُ *** مِـنَ المَـوْتِ أَنْ لَمْ يَذْهَبُوا وَجُدُودِي‏!‏‏؟‏

يَعْنِي‏:‏ قَطَّعَهُمْ، ثُمَّ نُقِلَتْ يَاؤُهَا الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ فَجُعِلَتْ عَيْنًا لِلْفِعْلِ، وَحُوِّلَتْ عَيْنُهَا فَجُعِلَتْ لَامَهَا، فَقِيلَ‏:‏ “صَارَ يَصِيرُ“، كَمَا قِيلَ‏:‏ “عَثِيَ يَعْثَى عَثًا“، ثُمَّ حُوِّلَتْ لَامُهَا، فَجُعِلَتْ عَيْنَهَا، فَقِيلَ‏:‏ “عَاثَ يَعِيثُ‏.‏

فَأَمَّا نَحَوِيُّو الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ سَوَاءٌ مَعْنَاهُ إِذَا قُرِئَ بِالضَّمِّ مِنَ الصَّادِ وَبِالْكَسْرِ فِي أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ التَّقْطِيعُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَهُمَا لُغَتَانِ‏:‏ إِحْدَاهُمَا‏:‏ “صَارَ يُصَوِّرُ“، وَالْأُخْرَى‏:‏ “صَارَ يَصَيِّرُ“، وَاسْتَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ بِبَيْتِ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيِّرِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ، وَبِبَيْتِ الْمُعَلَّى بْنِ جَمَّالٍ الْعَبْدِيِّ‏.‏

وَجَـاءَتْ خُلْعَـةٌ دُهْسٌ صَفَايَـا *** يَصُـورُ عُنُوقَهَـا أَحْـوَى زَنِيـمُ

بِمَعْنَى‏:‏ يُفَرِّقُ عُنُوقَهَا وَيُقَطِّعُهَا وَبِبَيْتِخَنْسَاءَ‏:‏

لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهَا وَهْيَ تَنْصَارُ*

يَعْنِي بِالشُّمِّ‏:‏ الْجِبَالَ، أَنَّهَا تَتَصَدَّعُ وَتَتَفَرَّقُ-وَبِبَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ‏:‏

فَـانْصَرْنَ مِـنْ فَـزَعٍ وَسَـدَّ فُرُوجَهُ *** غُـبْرٌ ضَـوَارٍ‏:‏ وَافِيَـانِ وَأَجْـدَعُ

قَالُوا‏:‏ فَلِقَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “صُرْتُ الشَّيْءَ“، مَعْنَيَانِ‏:‏ أَمَلْتُهُ، وَقَطَّعْتُهُ‏.‏ وَحَكَوْا سَمَاعًا‏:‏ “صُرْنَا بِهِ الْحُكْمَ“‏:‏ فَصَلْنَا بِهِ الْحُكْمَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ‏:‏ مِنْ أَنَّ مَعْنَى الضَّمِّ فِي “ الصَّادِ “ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ وَالْكَسْرِ، سَوَاءٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ- وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ، مَعْنَاهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏:‏ فَقَطِّعْهُنَّ- وَأَنَّ مَعْنَى “ إِلَيْكَ “ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ “ فَصُرْهُنَّ“، مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا صِلَةُ قَوْلِهِ‏:‏ “فَخُذْ“‏.‏ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ حَكَيْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ، الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لِلتَّقْطِيعِ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ مَفْهُومٌ إِلَّا عَلَى مَعْنَى الْقَلْبِ الَّذِي ذَكَرْتُ- لِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَصُرْهُنَّ‏)‏ غَيْرُ خَارِجٍ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ‏:‏ إِمَّا “ قَطِّعْهُنَّ“، وَإِمَّا “ اضْمُمْهُنَّ إِلَيْكَ“، بِالْكَسْرِ قُرِئَ ذَلِكَ أَوْ بِالضَّمِّ‏.‏ فَفِي إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مُرَاعَاةٍ مِنْهُمْ كَسَرَ الصَّادِ وَضَمِّهَا، وَلَا تَفْرِيقَ مِنْهُمْ بَيْنَ مَعْنَيَيْ الْقِرَاءَتَيْنِ، أَعْنِي الْكَسْرَ وَالضَّمَّ أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ مِنْ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي ذَلِكَ مَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ مِنَ القَوْلِ، وَخَطَأُ قَوْلِ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ‏;‏ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا إِنَّمَا تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏فَصُرْهُنَّ‏)‏ بِمَعْنَى فَقَطِّعْهُنَّ، عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ “ فَاصْرُهُنَّ“، ثُمَّ قُلِبَتْ فَقِيلَ‏:‏ “فصِرْهُنَّ “ بِكَسْرِ “ الصَّادِ“، لِتَحَوُّلِ “ يَاءِ“، “ فَاصْرُهُنَّ “ مَكَانَ رَائِهِ، وَانْتِقَالِ رَائِهِ مَكَانَ يَائِهِ، لَكَانَ لَا شَكَّ-مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِلُغَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِمَنْطِقِهِمْ- قَدْ فَصَلُوا بَيْنَ مَعْنَى ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ بِكَسْرِ صَادِهِ، وَبَيْنَهُ إِذَا قُرِئَ بِضَمِّهَا، إِذْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لِمَنْ قَلَبَ “ فَاصْرُهُنَّ “ إِلَى “ فَصِرْهُنَّ “ أَنْ يَقْرَأَهُ “ فَصُرْهُنَّ “ بِضَمِّ “ الصَّادِ“، وَهُمْ، مَعَ اخْتِلَافِ قِرَاءَتِهِمْ ذَلِكَ، قَدْ تَأَوَّلُوهُ تَأْوِيلًا وَاحِدًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا‏.‏ فَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ الدَّلِيلَ عَلَى خَطَأِ قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ بِكَسْرِ “ الصَّادِ “ بِتَأْوِيلِ التَّقْطِيعِ، مَقْلُوبٌ مِنْ‏:‏ “صَرِيَ يَصْرَى “ إِلَى “ صَارَ يَصَيِّرُ “ وَجَهْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ‏:‏ “صَارَ يُصَوِّرُ“، وَ“ صَارَ يُصَيِّرُ “ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى‏:‏ قَطَّعَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ حَضَرَنَا قَوْلُهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏فَصُرْهُنَّ‏)‏ أَنَّهُ بِمَعْنَى‏:‏ فَقَطِّعْهُنَّ‏.‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو كَدِينَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏فَصُرْهُنَّ‏)‏ قَالَ‏:‏ هِيَ نَبَطِيَّةٌ، فَشَقِّقْهُنَّ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ قَطِّعْهُنَّ، ثُمَّ اجْعَلْهُنَّ فِي أَرْبَاعِ الدُّنْيَا، رُبْعًا هَهُنَا، وَرُبْعًا هَهُنَا، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏فَصُرْهُنَّ‏)‏ قَالَ‏:‏ قَطِّعْهُنَّ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ قَطِّعْهُنَّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ‏:‏ ‏(‏فَصُرْهُنَّ‏)‏ قَالَ‏:‏ قَالَ جَنَاحٍ ذِهِ عِنْدَ رَأْسِ ذِهِ، وَرَأْسُ ذِهِ عِنْدَ جَنَاحِ ذِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ زَعَمَ أَبُو عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَالَ عِكْرِمَةُ بِالنَّبَطِيَّةِ‏:‏ قَطِّعْهُنَّ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَطِّعْهُنَّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ انْتِفْهُنَّ بِرِيشِهِنَّ وَلُحُومِهِنَّ تَمْزِيقًا، ثُمَّ اخْلِطْ لُحُومَهُنَّ بِرِيشِهِنَّ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ انْتِفْهُنَّ بِرِيشِهِنَّ وَلُحُومِهِنَّ تَمْزِيقًا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زِرِيعٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ أُمِرَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَأْخُذَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَيَذْبَحَهُنَّ، ثُمَّ يَخْلِطَ بَيْنَ لُحُومِهِنَّ وَرِيشِهِنَّ وَدِمَائِهِنَّ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَمَزِّقْهُنَّ‏.‏ قَالَ‏:‏ أُمِرَ أَنْ يَخْلِطَ الدِّمَاءَ بِالدِّمَاءِ، وَالرِّيشَ بِالرِّيشِ، “ ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏}‏‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَاكَ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَشَقِّقْهُنَّ، وَهُوَ بِالنَّبَطِيَّةِ “ صَرَّى“، وَهُوَ التَّشْقِيقُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ يَقُولُ قَطِّعْهُنَّ‏.‏

حُدِّثْنَا عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ قَطِّعْهُنَّ إِلَيْكَ وَمَزِّقْهُنَّ تَمْزِيقًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ أَيْ قَطِّعْهُنَّ، وَهُوَ “ الصَّوْرُ “ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْوَالِ مَنْ رَوَيْنَا قَوْلَهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ أَنَّهُ بِمَعْنَى‏:‏ فَقَطِّعْهُنَّ إِلَيْكَ، دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، وَفَسَادِ قَوْلِ مَنْ خَالَفَنَا فِيهِ‏.‏

وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَسَوَاءٌ قَرَأَ الْقَارِئُ ذَلِكَ بِضَمِّ “ الصَّادِ“‏:‏ “فَصُرْهُنَّ “ إِلَيْكَ أَوْ كَسْرِهَا “ فصِرْهُنَّ “ إِذْ كَانَتْ لُغَتَيْنِ مَعْرُوفَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ‏.‏ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ أَحَبَّهُمَا إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ بِهِ “ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ “ بِضَمِّ “ الصَّادِ “ لِأَنَّهَا أَعْلَى اللُّغَتَيْنِ وَأَشْهَرُهُمَا، وَأَكْثَرُهُمَا فِي أَحْيَاءِ الْعَرَبِ‏.‏

‏[‏وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ اضْمُمْهُنَّ إِلَيْكَ وَوَجِّهُنَّ نَحْوَكَ وَاجْمَعْهُنَّ، فَهُوَ قَوْلٌ قَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ نَفَرٌ قَلِيلٌ‏]‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ صُرْهُنَّ“‏:‏ أَوْثِقْهُنَّ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِعَطَاءٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ اضْمُمْهُنَّ إِلَيْكَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ قَالَ‏:‏ اجْمَعْهُنَّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏}‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ عَلَى كُلِّ رُبْعٍ مِنْ أَرْبَاعِ الدُّنْيَا جُزْءًا مِنْهُنَّ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏}‏ قَالَ‏:‏ اجْعَلْهُنَّ فِي أَرْبَاعِ الدُّنْيَا‏:‏ رُبْعًا هَهُنَا، وَرُبْعًا هَهُنَا، وَرُبْعًا هَهُنَا، وَرُبْعًا هَهُنَا، ‏{‏ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏}‏ قَالَ‏:‏ لَمَّا أَوْثَقَهُنَّ ذَبَحَهُنَّ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ قَالَ‏:‏ أُمِرَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنْ يَأْخُذَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَيَذْبَحَهُنَّ، ثُمَّ يَخْلِطُ بَيْنَ لُحُومِهِنَّ وَرِيشِهِنَّ وَدِمَائِهِنَّ، ثُمَّ يُجَزِّئُهُنَّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْبُلٍ، فَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ شَكَّلَ عَلَى أَجْنِحَتِهِنَّ، وَأَمْسَكَ بِرُءُوسِهِنَّ بِيَدِهِ، فَجَعَلَ الْعَظْمُ يَذْهَبُ إِلَى الْعَظْمِ، وَالرِّيشَةُ إِلَى الرِّيشَةِ، وَالْبَضْعَةُ إِلَى الْبَضْعَةِ، وَذَلِكَ بِعَيْنِ خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ ثُمَّ دَعَاهُنَّ فَأَتَيْنَهُ سَعْيًا عَلَى أَرْجُلِهِنَّ، وَيُلْقِي إِلَى كُلِّ طَيْرٍ بِرَأْسِهِ‏.‏ وَهَذَا مَثَلٌ آتَاهُ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ، يَقُولُ‏:‏ كَمَا بَعَثَ هَذِهِ الْأَطْيَارَ مِنْ هَذِهِ الْأَجْبُلِ الْأَرْبَعَةِ، كَذَلِكَ يَبْعَثُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَرْبَاعِ الْأَرْضِ وَنَوَاحِيهَا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ‏:‏ ذَبَحَهُنَّ، ثُمَّ قَطَّعَهُنَّ، ثُمَّ خَلَطَ بَيْنَ لُحُومِهِنَّ وَرِيشِهِنَّ، ثُمَّ قَسَّمَهُنَّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، فَجَعَلَ الْعَظْمُ يَذْهَبُ إِلَى الْعَظْمِ، وَالرِّيشَةُ إِلَى الرِّيشَةِ، وَالْبَضْعَةُ إِلَى الْبَضْعَةِ، وَذَلِكَ بِعَيْنِ خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ‏.‏ ثُمَّ دَعَاهُنَّ فَأَتَيْنَهُ سَعْيًا، يَقُولُ‏:‏ شَدًّا عَلَى أَرْجُلِهِنَّ‏.‏ وَهَذَا مَثَلٌ أَرَاهُ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ، يَقُولُ‏:‏ كَمَا بَعَثْتُ هَذِهِ الْأَطْيَارَ مِنْ هَذِهِ الْأَجْبُلِ الْأَرْبَعَةِ، كَذَلِكَ يَبْعَثُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَرْبَاعِ الْأَرْضِ وَنَوَاحِيهَا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ‏:‏ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ أَخَذَ الْأَطْيَارَ الْأَرْبَعَةَ، ثُمَّ قَطَّعَ كُلَّ طَيْرٍ بِأَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَجْبَالٍ، فَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ رُبْعًا مِنْ كُلِّ طَائِرٍ، فَكَانَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ رُبْعٌ مِنَ الطَّاوُوسِ، وَرُبْعٌ مِنَ الدِّيكِ، وَرُبْعٌ مِنَ الغُرَابِ وَرُبْعٌ مِنَ الحَمَامِ‏.‏ ثُمَّ دَعَاهُنَّ فَقَالَ‏:‏ “تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا كُنْتُنَّ“، فَوَثَبَ كُلُّ رُبْعٍ مِنْهَا إِلَى صَاحِبِهِ حَتَّى اجْتَمَعْنَ، فَكَانَ كُلُّ طَائِرٍ كَمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَهُ‏.‏ ثُمَّ أَقْبَلْنَ إِلَيْهِ سَعْيًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ يَا إِبْرَاهِيمُ هَكَذَا يَجْمَعُ اللَّهُ الْعِبَادَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى لِلْبَعْثِ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَشَامِهَا وَيَمَنِهَا‏!‏ فَأَرَاهُ اللَّهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى بِقُدْرَتِهِ، حَتَّى عَرَفَ ذَلِكَ، يَعْنِي مَا قَالَ نُمْرُوذُ مِنَ الكَذِبِ وَالْبَاطِلِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏}‏ قَالَ‏:‏ فَأَخَذَ طَاوُوسًا، وَحَمَامَةً، وَغُرَابًا، وَدِيكًا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ فَرِّقْهُنَّ، اجْعَلْ رَأْسَ كُلِّ وَاحِدٍ وَجُؤْشُوشَ الْآخَرِ وَجَنَاحَيِ الْآخَرِ وَرِجْلَيِ الْآخَرِ مَعَهُ‏.‏ فَقَطَّعَهُنَّ وَفَرَّقَهُنَّ أَرْبَاعًا عَلَى الْجِبَالِ، ثُمَّ دَعَاهُنَّ فَجِئْنَهُ جَمِيعًا، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ كَمَا نَادَيْتَهُنَّ فَجِئْنَكَ، فَكَمَا أَحْيَيْتَ هَؤُلَاءِ وَجَمَعْتَهُنَّ بَعْدَ هَذَا، فَكَذَلِكَ أَجْمَعُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا- يَعْنِي الْمَوْتَى‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنَ الْأَجْبَالِ الَّتِي كَانَتِ الْأَطْيَارُ وَالسِّبَاعُ الَّتِي كَانَتْ تَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الدَّابَّةِ الَّتِي رَآهَا إِبْرَاهِيمُ مَيْتَةً، فَسَأَلَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهَا، أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِيهَا وَسَائِرَ الْأَمْوَاتِ غَيْرَهَا‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ كَانَتْ سَبْعَةَ أَجْبَالٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ لَمَّا قَالَ إِبْرَاهِيمُ مَا قَالَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الدَّابَّةَ الَّتِي تَفَرَّقَتِ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ عَنْهَا حِينَ دَنَا مِنْهَا، وَسَأَلَ رَبَّهُ مَا سَأَلَ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ‏}‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ فَذَبَحَهَا-ثُمَّ اخْلِطْ بَيْنَ دِمَائِهِنَّ وَرِيشِهِنَّ وَلُحُومِهِنَّ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا حَيْثُ رَأَيْتَ الطَّيْرَ ذَهَبَتْ وَالسِّبَاعَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَجَعَلَهُنَّ سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ، وَأَمْسَكَ رُءُوسَهُنَّ عِنْدَهُ، ثُمَّ دَعَاهُنَّ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَنَظَرَ إِلَى كُلِّ قَطْرَةٍ مِنْ دَمٍ تَطِيرُ إِلَى الْقَطْرَةِ الْأُخْرَى، وَكُلِّ رِيشَةٍ تَطِيرُ إِلَى الرِّيشَةِ الْأُخْرَى، وَكُلِّ بَضْعَةٍ وَكُلِّ عَظْمٍ يَطِيرُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ، حَتَّى لَقِيَتْ كُلُّ جُثَّةٍ بَعْضَهَا بَعْضًا فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ أَقْبَلْنَ يَسْعَيْنَ، حَتَّى وَصَلَتْ رَأْسَهَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ‏:‏ ‏{‏فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى سَبْعَةِ أَجْبَالٍ، فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا‏!‏ فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ، فَقَطَّعَهُنَّ أَعْضَاءً، لَمْ يَجْعَلْ عُضْوًا مِنْ طَيْرٍ مَعَ صَاحِبِهِ‏.‏ ثُمَّ جَعَلَ رَأْسَ هَذَا مَعَ رِجْلِ هَذَا، وَصَدْرَ هَذَا مَعَ جَنَاحِ هَذَا، وَقَسَّمَهُنَّ عَلَى سَبْعَةِ أَجْبَالٍ، ثُمَّ دَعَاهُنَّ فَطَارَ كُلُّ عُضْوٍ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ أَقْبَلْنَ إِلَيْهِ جَمِيعًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏}‏، قَالَ‏:‏ ثُمَّ بدِّدْهُنَّ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ يَأْتِينَكَ سَعْيًا، وَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ثُمَّ اجْعَلْهُنَّ أَجْزَاءً عَلَى كُلِّ جَبَلٍ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا، كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى‏.‏ هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏}‏ ثُمَّ بَدِّدْهُنَّ أَجْزَاءً عَلَى كُلِّ جَبَلٍ ثُمَّ ‏(‏ادْعُهُنَّ‏)‏، تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏.‏ فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى‏.‏ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ، قَالَ‏:‏ أَمَرَهُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ قَوَائِمِهِنَّ وَرُءُوسَهُنَّ وَأَجْنِحَتِهِنَّ، ثُمَّ يَجْعَلُ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏}‏، فَخَالَفَ إِبْرَاهِيمُ بَيْنَ قَوَائِمِهِنَّ وَأَجْنِحَتِهِنَّ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِتَفْرِيقِ أَعْضَاءِ الْأَطْيَارِ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَ تَقْطِيعِهِ إِيَّاهُنَّ، عَلَى جَمِيعِ الْأَجْبَالِ الَّتِي كَانَ يَصِلُ إِبْرَاهِيمُ فِي وَقْتِ تَكْلِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ تَفْرِيقَ ذَلِكَ وَتَبْدِيدَهَا عَلَيْهَا أَجْزَاءً‏.‏ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ لَهُ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا‏}‏ وَ“ الْكُلُّ “ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، لَفْظُهُ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ‏.‏

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَنْ يَجُوزَ أَنْ تَكُونَ الْجِبَالُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِتَفْرِيقِ أَجْزَاءِ الْأَطْيَارِ الْأَرْبَعَةِ، عَلَيْهَا خَارِجَةً مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ‏:‏ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَعْضًا، أَوْ جَمِيعًا‏.‏

فَإِنْ كَانَتْ “ بَعْضًا “ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ إِلَّا مَا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ السَّبِيلُ إِلَى تَفْرِيقِ أَعْضَاءِ الْأَطْيَارِ الْأَرْبَعَةِ عَلَيْهِ‏.‏

أَوْ يَكُونُ “ جَمِيعًا“، فَيَكُونُ أَيْضًا كَذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى “ كُلِّ جَبَلٍ“، وَذَلِكَ إِمَّا كُلُّ جَبَلٍ وَقَدْ عَرَفَهُنَّ إِبْرَاهِيمُ بِأَعْيَانِهِنَّ، وَإِمَّا مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الجِبَالِ‏.‏

فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ “إِنَّ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَجُبِلٍ“، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ “هُنَّ سَبْعَةٌ“، فَلَا دَلَالَةَ عِنْدِنَا عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَنَسْتَجِيزُ الْقَوْلَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَطْيَارَ الْأَرْبَعَةَ أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَةً عَلَى كُلِّ جَبَلٍ، لِيُرِيَ إِبْرَاهِيمَ قُدْرَتَهُ عَلَى جَمْعِ أَجْزَائِهِنَّ وَهُنَّ مُتَفَرِّقَاتٍ متبدِّداتٍ فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ شَتَّى، حَتَّى يُؤَلِّفَ بَعْضَهُنَّ إِلَى بَعْضٍ، فَيَعُدْنَ كَهَيْئَتِهِنَّ قَبْلَ تَقْطِيعِهِنَّ وَتَمْزِيقِهِنَّ وَقَبْلَ تَفْرِيقِ أَجْزَائِهِنَّ عَلَى الْجِبَالِ أَطْيَارًا أَحْيَاءً يَطِرْنَ، فَيَطْمَئِنُّ قَلْبُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ كَذَلِكَ جَمْعُ اللَّهِ أَوْصَالَ الْمَوْتَى لِبَعْثِ الْقِيَامَةِ، وَتَأْلِيفُهُ أَجَزَاءَهُمْ بَعْدَ الْبِلَى وَرَدُّ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِمْ إِلَى مَوْضِعِهِ كَالَّذِي كَانَ قَبْلَ الرَّدَى‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَ“ الْجُزْءُ “ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْبَعْضُ مِنْهُ، كَانَ مُنْقَسِمًا جَمِيعُهُ عَلَيْهِ عَلَى صِحَّةٍ أَوْ غَيْرَ مُنْقَسِمٍ‏.‏ فَهُوَ بِذَلِكَ مِنْ مَعْنَاهُ مُخَالِفٌ مَعْنَى “ السَّهْمِ“‏.‏ لِأَنَّ “ السَّهْمَ “ مِنَ الشَّيْءِ، هُوَ الْبَعْضُ الْمُنْقَسِمُ عَلَيْهِ جَمِيعُهُ عَلَى صِحَّةٍ‏.‏ وَلِذَلِكَ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ فِي كَلَامِهِمْ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ أَنْصِبَاءَهُمْ مِنَ المَوَارِيثِ‏:‏ “السِّهَامُ “ دُونَ “ الْأَجْزَاءِ“‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏ثُمَّ ادْعُهُنَّ‏)‏ فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْتُ آنِفًا عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ هُوَ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَقُولَ لِأَجْزَاءِ الْأَطْيَارِ بَعْدَ تَفْرِيقِهِنَّ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ‏:‏ “تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ“‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَدْعُوَهُنَّ وَهُنَّ مُمَزَّقَاتٍ أَجْزَاءً عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ أَمْوَاتًا، أَمْ بَعْدَ مَا أُحْيِينَ‏؟‏ فَإِنْ كَانَ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَهُنَّ وَهُنَّ مُمَزَّقَاتٍ لَا أَرْوَاحَ فِيهِنَّ، فَمَا وَجْهُ أَمْرِ مَنْ لَا حَيَاةَ فِيهِ بِالْإِقْبَالِ‏؟‏ وَإِنْ كَانَ أُمِرَ بِدُعَائِهِنَّ بَعْدَ مَا أُحْيِينَ، فَمَا كَانَتْ حَاجَةُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى دُعَائِهِنَّ، وَقَدْ أَبْصَرَهُنَّ يُنْشَرْنَ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ إِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَائِهِنَّ وَهُنَّ أَجْزَاءً مُتَفَرِّقَاتٍ، إِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَكْوِينٍ كَقَوْلِ اللَّهِ لِلَّذِينِ مَسَخَهُمْ قِرَدَةً بَعْدَ مَا كَانُوا إِنْسًا‏:‏ ‏{‏كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 65‏]‏ لَا أَمْرَ عِبَادَةٍ، فَيَكُونُ مُحَالًا إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمَأْمُورِ الْمُتَعَبَّدِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏260‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ ‏(‏وَاعْلَمْ‏)‏ يَا إِبْرَاهِيمُ، أَنَّ الَّذِي أَحْيَا هَذِهِ الْأَطْيَارَ بَعْدَ تَمْزِيقِكَ إِيَّاهُنَّ، وَتَفْرِيقِكَ أَجَزَاءَهُنَّ عَلَى الْجِبَالِ، فَجَمَعَهُنَّ وَرَدَّ إِلَيْهِنَّ الرُّوحَ، حَتَّى أَعَادَهُنَّ كَهَيْئَتِهِنَّ قَبْلَ تَفْرِيقِكَهُنَّ ‏(‏عَزِيزٌ‏)‏، فِي بَطْشِهِ إِذَا بَطَشَ بِمَنْ بَطَشَ مِنَ الجَبَابِرَةِ وَالْمُتَكَبِّرَةِ، الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَهُ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَعَبَدُوا غَيْرَهُ، وَفِي نِقْمَتِهِ حَتَّى يَنْتَقِمَ مِنْهُمْ ‏(‏حَكِيمٌ‏)‏ فِي أَمْرِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏، قَالَ‏:‏ عَزِيزٌ فِي بَطْشِهِ، حَكِيمٌ فِي أَمْرِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ‏}‏ فِي نِقْمَتِهِ ‏(‏حَكِيمٌ‏)‏ فِي أَمْرِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏261‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذِهِ الْآيَةُ مَرْدُودَةٌ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 245‏]‏ وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏، مِنْ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرِهِمْ مَعَ طَالُوتَ وَجَالُوتَ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ نَبَإِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمْرِ الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ الْخَاوِيَةِ عَلَى عُرُوشِهَا، وَقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَمَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ مَا سَأَلَ، مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ- اعْتِرَاضٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمَا اعْتَرَضَ بِهِ مِنْ قَصَصِهِمْ بَيْنَ ذَلِكَ، احْتِجَاجًا مِنْهُ بِبَعْضِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَحَضًّا مِنْهُ بِبَعْضِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 244‏]‏ يُعَرِّفُهُمْ فِيهِ أَنَّهُ نَاصِرُهُمْ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُهُمْ وَكَثُرَ عَدَدُ عَدُوِّهِمْ، وَيَعِدُهُمُ النُّصْرَةَ عَلَيْهِمْ، وَيُعْلِمُهُمْ سُنَّتَهُ فِيمَنْ كَانَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ مِنَ ابْتِغَاءِ رِضْوَانِ اللَّهِ أَنَّهُ مُؤَيِّدُهُمْ، وَفِيمَنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الكُفَّارِ بِأَنَّهُ خَاذِلُهُمْ وَمُفَرِّقٌ جَمْعَهُمْ وَمُوهِنٌ كَيْدَهُمْ وَقَطْعًا مِنْهُ بِبَعْضِ عُذْرِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانِيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَا أَطْلَعَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَفِيِ أُمُورِهِمْ، وَمَكْتُومِ أَسْرَارِ أَوَائِلِهِمْ وَأَسْلَافِهِمُ الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا سِوَاهُمْ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا آتَاهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِتَخَرُّصٍ وَلَا اخْتِلَاقٍ، وَإِعْذَارًا مِنْهُ بِهِ إِلَى أَهْلِ النِّفَاقِ مِنْهُمْ، لِيَحْذَرُوا بِشَكِّهِمْ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحِلَّ بِهِمْ مِنْ بَأْسِهِ وَسَطْوَتِهِ، مِثْلَ الَّذِي أَحَلَّهُمَا بِأَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْقَرْيَةِ الَّتِي أَهْلَكَهَا، فَتَرَكَهَا خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا‏.‏

ثُمَّ عَادَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِلَى الْخَبَرِ عَنِ ‏{‏الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ وَمَا عِنْدَهُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى قَرْضِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ يَعْنِي بِذَلِكَ مَثَلَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ‏(‏كَمَثَلِ حَبَّةٍ‏)‏ مِنْ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ أَوِ الشَّعِيرِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي تُسَنْبِلُ رَيْعَهَا بَذَرَهَا زَارِعٌ‏.‏ “ فَأَنْبَتَتْ“، يَعْنِي‏:‏ فَأَخْرَجَتْ ‏{‏سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَكَذَلِكَ الْمُنْفِقُ مَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَهُ أَجْرُهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ نَفَقَتِهِ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ‏}‏ فَهَذَا لِمَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُ أَجْرُهُ سَبْعُمِائَةٍ‏.‏

حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا الَّذِي يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُخْرِجُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ‏}‏ الْآيَةَ، فَكَانَ مَنْ بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَرَابَطَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَلْقَ وَجْهًا إِلَّا بِإِذْنِهِ، كَانَتِ الْحَسَنَةُ لَهُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَمَنْ بَايَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْحَسَنَةُ لَهُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَهَلْ رَأَيْتَ سُنْبُلَةً فِيهَا مِائَةُ حَبَّةٍ أَوْ بَلَغَتْكَ فَضُرِبَ بِهَا مَثَلُ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَالَهُ‏؟‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ إِنْ يَكُنْ ذَلِكَ مَوْجُودًا فَهُوَ ذَاكَ، وَإِلَّا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ كَمَثَلِ سُنْبُلَةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، إِنْ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهَا‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ‏;‏ يَعْنِي أَنَّهَا إِذَا هِيَ بُذِرَتْ أَنْبَتَتْ مِائَةَ حَبَّةٍ فَيَكُونُ مَا حَدَثَ عَنِ الْبَذْرِ الَّذِي كَانَ مِنْهَا مِنَ المِائَةِ الْحَبَّةِ، مُضَافًا إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ كَانَ عَنْهَا‏.‏ وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ كُلُّ سُنْبُلَةٍ أَنْبَتَتْ مِائَةَ حَبَّةٍ، فَهَذَا لِمَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏261‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏‏.‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَجْرَ حَسَنَاتِهِ يَعِدُ الَّذِي أَعْطَى غَيْرَ مُنْفِقٍ فِي سَبِيلِهِ، دُونَ مَا وَعَدَ الْمُنْفِقَ فِي سَبِيلِهِ مِنْ تَضْعِيفِ الْوَاحِدَةِ سَبْعَمِائَةٍ‏.‏ فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فِي سَبِيلِهِ، فَلَا يُنْقِصُهُ عَمَّا وَعَدَهُ مِنْ تَضْعِيفِ السَّبْعِمِائَةٍ بِالْوَاحِدَةِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ، قَالَ‏:‏ هَذَا يُضَاعَفُ لِمَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ-يَعْنِي السَّبْعَمِائَةٍ- ‏{‏وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏، يَعْنِي لِغَيْرِ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ المُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ عَلَى السَّبْعِمِائَةٍ إِلَى أَلْفَيْ أَلْفِ ضِعْفٍ‏.‏ وَهَذَا قَوْلٌ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ لَمْ أَجِدْ إِسْنَادَهُ، فَتَرَكْتُ ذِكْرَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ عَلَى السَّبْعِمِائَةٍ إِلَى مَا يَشَاءُ مِنَ التَّضْعِيفِ، لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ المُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ‏.‏ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ الثَّوَابِ وَالتَّضْعِيفِ لِغَيْرِ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَجُوزُ لَنَا تَوْجِيهُ مَا وَعَدَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ التَّضْعِيفِ، إِلَى أَنَّهُ عِدَةٌ مِنْهُ عَلَى ‏[‏الْعَمَلِ فِي غَيْرِ سَبِيلِهِ، أَوْ‏]‏ عَلَى غَيْرِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏261‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏261‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ وَاسِعٌ‏)‏، أَنْ يَزِيدَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ الْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ عَلَى أَضْعَافِ السَّبْعمِائَةِ الَّتِي وَعَدَهُ أَنْ يَزِيدَهُ‏.‏ ‏(‏عَلِيمٌ‏)‏ مَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُمُ الزِّيَادَةَ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَاسِعٌ‏)‏ أَنْ يَزِيدَ مِنْ سِعَتِهِ ‏(‏عَلِيمٌ‏)‏، عَالَمٌ بِمَنْ يَزِيدُهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ وَاسِعٌ‏)‏، لِتِلْكَ الْأَضْعَافِ ‏(‏عَلِيمٌ‏)‏ بِمَا يُنْفِقُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏262‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏262‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ الْمُعْطِيَ مَالَهُ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعُونَةً لَهُمْ عَلَى جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ الَّذِينَيُعِينُونَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْوَفِي حَمُولَاتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُؤَنِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يُتْبِعْ نَفَقَتَهُ الَّتِي أَنْفَقَهَا عَلَيْهِمْ مَنًّا عَلَيْهِمْ بِإِنْفَاقِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا أَذًى لَهُمْ‏.‏ فَامْتِنَانُهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُ قَدِ اصْطَنَعَ إِلَيْهِمْ-بِفِعْلِهِ وَعَطَائِهِ الَّذِي أَعْطَاهُمُوهُ تَقْوِيَةً لَهُمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ- مَعْرُوفًا، وَيُبْدِي ذَلِكَ إِمَّا بِلِسَانٍ أَوْ فِعْلٍ‏.‏ وَأَمَّا “ الْأَذَى “ فَهُوَ شِكَايَتُهُ إِيَّاهُمْ بِسَبَبِ مَا أَعْطَاهُمْ وَقَوَّاهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَقُومُوا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِي الْجِهَادِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ القَوْلِ الَّذِي يُؤْذِي بِهِ مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ‏.‏

وَإِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَوْجَبَ الْأَجْرَ لِمَنْ كَانَ غَيْرَ مَانٍّ وَلَا مُؤْذٍ مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ الَّتِي هِيَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏:‏ مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَطُلِبَ بِهِ مَا عِنْدَهُ‏.‏ فَإِذَا كَانَ مَعْنَى النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ مَا وَصَفْنَا، فَلَا وَجْهَ لِمَنِّ الْمُنْفِقِ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ قِبَلَهُ وَلَا صَنِيعَةَ يَسْتَحِقُّ بِهَا عَلَيْهِ-إِنْ لَمْ يُكَافِئْهُ- عَلَيْهَا الْمَنَّ وَالْأَذَى، إِذْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ احْتِسَابًا وَابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَطَلَبَ مَرْضَاتِهِ، وَعَلَى اللَّهِ مَثُوبَتُهُ، دُونَ مَنْ أَنْفَقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ أُنَاسًا يَمُنُّونَ بِعَطِيَّتِهِمْ، فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَدَّمَ فِيهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ قَالَ لِلْآخَرِينَ يَعْنِي‏:‏ قَالَ اللَّهُ لِلْآخَرِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى‏}‏، قَالَ‏:‏ فَشَرَطَ عَلَيْهِمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَالْخَارِجُ لَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا- يَعْنِي بِالْخَارِجِ، الْخَارِجَ فِي الْجِهَادِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ وَكَانَ أَبِي يَقُولُ‏:‏ إِنْ آذَاكَ مَنْ يُعْطِي مِنْ هَذَا شَيْئًا أَوْ يُقَوِّي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَظَنَنْتَ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ سَلَامُكَ، فَكُفَّ سَلَامَكَ عَنْهُ‏.‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ فَنَهَى عَنْ خَيْرِ الْإِسْلَامِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَالَتِ امْرَأَةٌ لِأَبِي‏:‏ يَا أَبَا أُسَامَةَ، تَدُلُّنِي عَلَى رَجُلٍ يَخْرُجُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إِلَّا لِيَأْكُلُوا الْفَوَاكِهَ‏!‏‏!‏ عِنْدِي جُعْبَةٌ وَأَسْهُمٌ فِيهَا‏.‏ فَقَالَ لَهَا‏:‏ لَا بَارَكَ اللَّهُ لَكِ فِي جُعْبَتِكِ، وَلَا فِي أَسْهُمِكِ، فَقَدَ آذَيْتِيهِمْ قَبْلَ أَنْ تُعْطِيهِمْ‏!‏ قَالَ‏:‏ وَكَانَ رَجُلٌ يَقُولُ لَهُمْ‏:‏ اخْرُجُوا وَكُلُوا الْفَوَاكِهَ‏!‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى‏}‏ قَالَ‏:‏ أَنْ لَا يُنْفِقُ الرَّجُلُ مَالَهُ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُنْفِقَهُ ثُمَّ يُتْبِعُهُ مَنًّا وَأَذًى‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي لِلَّذِينِ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى مَا بَيَّنَ‏.‏ وَ“ الْهَاءُ وَالْمِيمُ “ فِي “ لَهُمْ “ عَائِدَةٌ عَلَى “ الَّذِينَ“‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، لَهُمْ ثَوَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ عَلَى نَفَقَتِهِمُ الَّتِي أَنْفَقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمْ يُتْبِعُوهَا مَنًّا وَلَا أَذًى‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَهُمْ مَعَ مَا لَهُمْ مِنَ الجَزَاءِ وَالثَّوَابِ عَلَى نَفَقَتِهِمُ الَّتِي أَنْفَقُوهَا عَلَى مَا شَرَطْنَا ‏{‏لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ عِنْدَ مَقْدِمِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَفِرَاقِهِمُ الدُّنْيَا، وَلَا فِي أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يَنَالَهُمْ مِنْ مَكَارِهِهَا أَوْ يُصِيبَهُمْ فِيهَا مِنْ عِقَابِ اللَّهِ ‏{‏وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏263‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏263‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَوْلٌ مَعْرُوفٌ‏}‏، قَوْلٌ جَمِيلٌ، وَدُعَاءُ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ ‏(‏وَمَغْفِرَةٌ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ وَسَتْرٌ مِنْهُ عَلَيْهِ لِمَا عَلِمَ مَنْ خَلَّتِهِ وَسُوءِ حَالَتِهِ‏.‏ ‏(‏خَيْرٌ‏)‏ عِنْدَ اللَّهِ ‏(‏مِنْ صَدَقَةٍ‏)‏ يَتَصَدَّقُهَا عَلَيْهِ ‏{‏يُتْبِعُهَا أَذًى‏}‏، يَعْنِي يَشْتَكِيهِ عَلَيْهَا، وَيُؤْذِيهِ بِسَبَبِهَا، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ‏:‏ ‏{‏قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَنْ يُمْسِكَ مَالَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُنْفِقَ مَالَهُ ثُمَّ يُتْبِعَهُ مَنًّا وَأَذًى‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏غَنِيٌّ حَلِيمٌ‏)‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ “وَاللَّهُ غَنِيٌّ “ عَمَّا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ ‏(‏حَلِيمٌ‏)‏، حِينَ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ يَمُنُّ بِصَدَقَتِهِ مِنْكُمْ، وَيُؤْذِي فِيهَا مَنْ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَيْهِ‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، مَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏الْغَنِيُّ‏)‏، الَّذِي كَمُلَ فِي غِنَاهُ، وَ‏(‏الْحَلِيمُ‏)‏، الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏264‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏، صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ‏{‏لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تُبْطِلُوا أُجُورَ صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، كَمَا أَبْطَلَ كُفْرُ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ ‏{‏رِئَاءَ النَّاسِ‏}‏، وَهُوَ مُرَاءَاتُهُ إِيَّاهُمْ بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يُنْفِقَ مَالَهُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ يُرِيدُ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَيَحْمَدُونَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُرِيدٍ بِهِ اللَّهَ وَلَا طَالِبٌ مِنْهُ الثَّوَابَ، وَإِنَّمَا يُنْفِقُهُ كَذَلِكَ ظَاهِرًا لِيَحْمَدهُ النَّاسُ عَلَيْهِ فَيَقُولُوا‏:‏ هُوَ سَخِيٌّ كَرِيمٌ، وَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ “ فَيُحْسِنُوا عَلَيْهِ بِهِ الثَّنَاءَ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ مُسْتَبْطِنٌ مِنَ النِّيَّةِ فِي إِنْفَاقِهِ مَا أَنْفَقَ، فَلَا يَدْرُونَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِاللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏}‏، فَإِنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ وَلَا يُصَدِّقُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَلَا بِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ بَعْدَ مَمَاتِهِ فَمُجَازًى عَلَى عَمَلِهِ، فَيَجْعَلُ عَمَلَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَطَلَبِ ثَوَابِهِ وَمَا عِنْدَهُ فِي مَعَادِهِ‏.‏ وَهَذِهِصِفَةُ الْمُنَافِقِ‏;‏ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ مُنَافِقٌ، لِأَنَّ الْمُظْهِرَ كُفْرَهُ وَالْمُعْلِنَ شِرْكَهُ، مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِ مُرَائِيًا‏.‏ لِأَنَّ الْمُرَائِيَ هُوَ الَّذِي يُرَائِي النَّاسَ بِالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ لِلَّهِ، وَفِي الْبَاطِنِ مُرِيبَةٌ سَرِيرَةُ عَامِلِهِ، مُرَادُهُ بِهِ حَمْدُ النَّاسِ عَلَيْهِ‏.‏ وَالْكَافِرُ لَا يَخِيلُ عَلَى أَحَدٍ أَمْرُهُ أَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا إِنَّمَا هِيَ لِلشَّيْطَانِ- إِذَا كَانَ مُعْلِنًا كُفْرَهُ- لَا لِلَّهِ‏.‏ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ كَائِنٍ مُرَائِيًا بِأَعْمَالِهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ أَبُو هَانِئٍ الْخَوَلَانِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ‏:‏ إِنَّ الرَّجُلَ يَغْزُو، لَا يَسْرِقُ وَلَا يَزْنِي وَلَا يَغُلُّ، لَا يَرْجِعُ بِالْكَفَافِ‏!‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ لِمَ ذَاكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ، فَإِذَا أَصَابَهُ مِنْ بَلَاءِ اللَّهِ الَّذِي قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ، سَبَّ وَلَعَنَ إِمَامَهُ وَلَعَنَ سَاعَةَ غَزَا، وَقَالَ‏:‏ لَا أَعُودُ لِغَزْوَةٍ مَعَهُ أَبَدًا‏!‏ فَهَذَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِثْلُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَتْبَعُهَا مَنٌّ وَأَذًى‏.‏ فَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهَا فِي الْقُرْآنِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى‏}‏، حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏264‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏264‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ‏:‏ فَمَثَلُ هَذَا الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ“ الْهَاءُ “ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏فَمَثَلُهُ‏)‏ عَائِدَةٌ عَلَى “ الَّذِي “ ‏{‏كَمَثَلِ صَفْوَانٍ‏}‏، وَ“ الصَّفْوَانُ “ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ، فَمَنْ جَعَلَهُ جَمْعًا فَالْوَاحِدَةُ “ صَفْوَانَةٌ“، بِمَنْـزِلَةِ “ تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ “ وَ“ نَخْلَةٍ وَنَخْلٍ“‏.‏ وَمَنْ جَعَلَهُ وَاحِدًا، جَمَعَهُ “ صِفْوانٌ، وصُفِيٌّ، وصِفِيٌّ“، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ ***

وَ “ الصَّفْوَانُ “ هُوَ “ الصَّفَا“، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُلْسُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تُرَابٌ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ عَلَى الصَّفْوَانِ تُرَابٌ ‏(‏فَأَصَابَهُ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ أَصَابَ الصَّفْوَانَ ‏(‏وَابِلٌ‏)‏، وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ الْعَظِيمُ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ‏:‏

سَـاعَةً ثُـمَّ انْتَحَاهَـا وَابِـلٌ *** سَـاقِطُ الْأَكْنَـافِ وَاهٍ مُنْهَمِـرُ

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ “وَبَلَتِ السَّمَاءُ فَهِيَ تَبِلُ وَبْلًا“، وَقَدْ‏:‏ “وُبِلَتِ الْأَرْضُ فَهِيَ تُوبَلُ“‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَتَرَكَ الْوَابِلُ الصَّفْوَانَ صَلْدًا‏.‏

وَ “ الصَّلْدُ “ مِنَ الحِجَارَةِ‏:‏ الصُّلْبُ الَّذِي لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ نَبَاتٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الْأَرَضِينِ مَا لَا يَنْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ مِنَ الرُّءُوسِ، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ‏:‏

لَمَّـا رَأَتْنِـي خَـلَقَ المُمَـوَّهِ *** بَـرَّاقَ أَصْـلَادِ الجَـبِينِ الْأَجْلَـهِ

وَمِنْ ذَلِكَ يُقَالُ لِلْقَدْرِ الثَّخِينَةِ الْبَطِيئَةِ الْغَلْيِ‏:‏ “قِدْرٌ صَلُودٌ“، “ وَقَدْ صَلَدَتْ تَصْلُدُ صُلُودًا، وَمِنْهُ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا‏:‏

وَلَسْـتُ بِجِـلْبٍ جِـلْبِ رَعْـدٍ وَقِـرَّةٍ *** وَلَا بِصَفًـا صَلْـدٍ عَـنِ الخَـيْرِ أَعْزَلِ

ثُمَّ رَجَعَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِلَى ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ضَرَبَ الْمَثَلَ لِأَعْمَالِهِمْ، فَقَالَ‏:‏ فَكَذَلِكَ أَعْمَالُهُمْ بِمَنْـزِلَةِ الصَّفْوَانِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَأَصَابَهُ الْوَابِلُ مِنَ المَطَرِ، فَذَهَبَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ، فَتَرَكَهُ نَقِيًّا لَا تُرَابَ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ يَرَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ لَهُمْ أَعْمَالًا- كَمَا يُرَى التُّرَابُ عَلَى هَذَا الصَّفْوَانِ- بِمَا يُرَاؤُونَهُمْ بِهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَصَارُوا إِلَى اللَّهِ، اضْمَحَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ، كَمَا ذَهَبَ الْوَابِلُ مِنَ المَطَرِ بِمَا كَانَ عَلَى الصَّفْوَانِ مِنَ التُّرَابِ، فَتَرَكَهُ أَمْلَسَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ

فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏لَا يَقْدِرُونَ‏)‏، يَعْنِي بِهِ‏:‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، يَقُولُ‏:‏ لَا يَقْدِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَوَابِ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا لِمَعَادِهِمْ، وَلَا لِطَلَبِ مَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُمْ عَمِلُوهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَطَلَبَ حَمْدِهِمْ‏.‏ وَإِنَّمَا حَظُّهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، مَا أَرَادُوهُ وَطَلَبُوهُ بِهَا‏.‏

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ ‏{‏لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا يُسَدِّدُهُمْ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ فِي نَفَقَاتِهِمْ وَغَيْرِهَا، فَيُوَفِّقُهُمْ لَهَا، وَهُمْ لِلْبَاطِلِ عَلَيْهَا مُؤْثِرُونَ، وَلَكِنَّهُ يَتْرُكُهُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏.‏

فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏:‏ لَا تَكُونُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هَذَا الْمَثَلُ صِفَةُ أَعْمَالِهِمْ، فَتُبْطِلُوا أُجُورَ صَدَقَاتِكُمْ بِمَنِّكُمْ عَلَى مَنْ تَصَدَّقْتُمْ بِهَا عَلَيْهِ وَأَذَاكُمْ لَهُمْ، كَمَا أَبْطَلَ أَجْرَ نَفَقَةِ الْمُنَافِقِ الَّذِي أَنْفَقَ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر، عِنْدَ اللَّهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى‏}‏ فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا‏}‏، فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ‏:‏ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا يَوْمئِذٍ، كَمَا تَرَكَ هَذَا الْمَطَرُ الصَّفَاةَ الْحَجَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَنْقَى مَا كَانَ عَلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏}‏، هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَعْمَالِ الْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ‏:‏ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا يَوْمئِذٍ، كَمَا تَرَكَ هَذَا الْمَطَرُ الصَّفَا نَقِيًّا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا‏}‏ أَمَّا الصَّفْوَانُ الَّذِي عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَأَصَابَهُ الْمَطَرُ فَذَهَبَ تُرَابُهُ فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏.‏ فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِيَاءَ النَّاسِ، ذَهَبَ الرِّيَاءُ بِنَفَقَتِهِ، كَمَا ذَهَبَ هَذَا الْمَطَرُ بِتُرَابِ هَذَا الصَّفَا فَتَرَكَهُ نَقِيًّا، فَكَذَلِكَ تَرَكَهُ الرِّيَاءُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَدَّمَ‏.‏ فَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏:‏ ‏{‏لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى‏}‏ فَتَبْطُلُ كَمَا بَطَلَتْ صَدَقَةُ الرِّيَاءِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ، قَالَ‏:‏ أَنْ لَا يُنْفِقَ الرَّجُلُ مَالَهُ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُنْفِقَهُ ثُمَّ يُتْبِعُهُ مَنًّا وَأَذًى‏.‏ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُ كَمَثَلِ كَافِرٍ أَنْفَقَ مَالَهُ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُمَا جَمِيعًا‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ فَكَذَلِكَ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ ثُمَّ أَتْبَعُهُ مَنًّا وَأَذًى‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِى أَبِي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى‏}‏ إِلَى ‏{‏كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى‏}‏ قَالَ‏:‏ يَمُنُّ بِصَدَقَتِهِ وَيُؤْذِيهِ فِيهَا حَتَّى يُبْطِلَهَا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى‏}‏، فَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى‏}‏ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا‏}‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَتُرَى الْوَابِلَ يَدَعُ مِنَ التُّرَابِ عَلَى الصَّفْوَانِ شَيْئًا‏؟‏ فَكَذَلِكَ مَنُّكَ وَأَذَاكَ لَمْ يَدَعْ مِمَّا أَنْفَقْتَ شَيْئًا‏.‏ وَقَرَأَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى‏}‏، وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ‏}‏، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 2272‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏265‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏صَفْوَانٍ‏}‏‏.‏

قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى “ الصَّفْوَانِ “ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ، غَيْرَ أَنَّا أَرَدْنَا ذِكْرَ مَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِنَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ صَفْوَانٍ‏}‏ كَمَثَلِ الصَّفَاةِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ صَفْوَانٍ‏}‏ وَالصَّفْوَانُ‏:‏ الصَّفَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ أَمَّا ‏(‏صَفْوَانٍ‏)‏، فَهُوَ الْحَجَرُ الَّذِي يُسَمَّى “ الصَّفَاةَ“‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏صَفْوَانٍ‏)‏ يَعْنِي الْحَجَرَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏265‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏فَأَصَابَهُ وَابِلٌ‏}‏‏.‏

قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْهُ‏.‏ وَهَذَا ذِكْرُ مَنْ قَالَ قَوْلَنَا فِيهِ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ أَمَّا وَابِلٌ‏:‏ فَمَطَرٌ شَدِيدٌ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ‏:‏ ‏{‏فَأَصَابَهُ وَابِلٌ‏}‏ وَالْوَابِلُ‏:‏ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏265‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ نَحْوَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنْ السُّدِّيّ‏:‏ ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ يَقُولُ نَقِيًّا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ تَرَكَهَا نَقِيَّةً لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ حَدَّثَنَا، أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ‏:‏ ‏(‏صَلْدًا‏)‏ فَتَرَكَهُ جَرْدًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏265‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ‏}‏ فَيَصَّدَّقُونَ بِهَا، وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُقَوُّونَ بِهَا أَهْلَ الْحَاجَةِ مِنَ الغُزَاةِ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طَاعَاتِ اللَّهِ، طَلَبَ مَرْضَاتِهِ‏.‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ وَتَثْبِيتًا لَهُمْ عَلَى إِنْفَاقِ ذَلِكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَتَحْقِيقًا، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “ثَبَّتُّ فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْرِ “- إِذَا صَحَّحْتُ عَزْمَهُ، وَحَقَّقْتُهُ، وَقَوَّيْتُ فِيهِ رَأْيَهُ- “ أُثَبِّتُهُ تَثْبِيتًا“، كَمَا قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ‏:‏

فَثَبَّـتَ اللـهُ مَـا آتَـاكَ مِـنْ حَسَـنٍ *** تَثْبِيـتَ مُوسَـى، وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا

وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِذَلِكَ‏:‏ أَنَّ أَنْفُسَهُمْ كَانَتْ مُوقِنَةً مُصَدِّقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهَا فِيمَا أَنْفَقَتْ فِي طَاعَتِهِ بِغَيْرِ مَنٍّ وَلَا أَذًى، فَثَبَّتَتْهُمْ فِي إِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَصَحَّحَتْ عَزْمَهُمْ وَآرَاءَهُمْ، يَقِينًا مِنْهَا بِذَلِكَ، وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهَا مَا وَعَدَهَا‏.‏ وَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَتَثْبِيتًا‏)‏، وَتَصْدِيقًا وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ‏:‏ وَيَقِينًا لِأَنَّ تَثْبِيتَ أَنْفُسِ الْمُنْفِقِينَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، إِنَّمَا كَانَ عَنْ يَقِينٍ مِنْهَا وَتَصْدِيقٍ بِوَعْدِ اللَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ الشَّعْبِيِّ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ تَصْدِيقًا وَيَقِينًا‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ الشَّعْبِيِّ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَتَصْدِيقًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ثَبَاتٌ وَنُصْرَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَقِينًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ التَّثْبِيتُ الْيَقِينُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يَقِينًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَثَبَّتُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَضَعُونَ فِيهِ صَدَقَاتِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ قَالَ‏:‏ يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ مَا ذَلِكَ التَّثْبِيتُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَهَا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانُوا يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ-يَعْنِي زَكَاتَهُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُوِيدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْحَسَنَ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ مَضَى، وَإِنْ خَالَطَهُ شَكٌّ أَمْسَكَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ، تَأْوِيلٌ بَعِيدُ الْمَعْنَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، بِمَعْنَى‏:‏ “وَتَثَبُّتًا“، فَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا قِيلَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ‏.‏ وَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ كَذَلِكَ، لَكَانَ‏:‏ “وَتَثَبُّتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ“؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ مِنَ الكَلَامِ إِنْ كَانَ عَلَى “ تَفَعَّلَتْ “ “ التَّفَعُّلُ“، فَيُقَالُ‏:‏ “تَكَرَّمَتْ تَكَرُّمًا“، و “ تَكَلَّمَتْ تَكَلُّمًا“، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ‏}‏ ‏[‏النَّحْلِ‏:‏ 47‏]‏، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “تَخَوَّفَ فُلَانٌ هَذَا الْأَمْرَ تَخَوُّفًا“‏.‏ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، لَوْ كَانَ مِنْ “ تَثَبُّتِ الْقَوْمِ فِي وَضْعِ صَدَقَاتِهِمْ مَوَاضِعَهَا“، لَكَانَ الْكَلَامُ‏:‏ “وَتَثَبُّتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ“، لَا “ وَتَثْبِيتًا“‏.‏ وَلَكِنْ مَعْنَى ذَلِكَ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ‏:‏ وَتَثْبِيتٌ مِنْ أَنْفُسِ الْقَوْمِ إِيَّاهُمْ، بِصِحَّةِ الْعَزْمِ وَالْيَقِينِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا‏}‏ ‏[‏الْمُزَّمِّلِ‏:‏ 8‏]‏، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ “تَبَتُّلًا“‏.‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِذَلِكَ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ‏:‏ “تَبْتِيلًا “ لِظُهُورِ “ وَتَبَتَّلَ إِلَيْهِ“، فَكَانَ فِي ظُهُورِهِ دَلَّالَةٌ عَلَى مَتْرُوكٍ مِنَ الكَلَامِ الَّذِي مِنْهُ قِيلَ‏:‏ “تَبْتِيلًا“‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ‏:‏ “تَبَتَّلْ فَيُبَتِّلَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا“‏.‏ وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ مِثْلَ ذَلِكَ أَحْيَانًا، تُخْرِجُ الْمَصَادِرَ عَلَى غَيْرِ أَلْفَاظِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا، إِذَا كَانَتِ الْأَفْعَالُ الْمُتَقَدِّمَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا أُخْرِجَتْ مِنْهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا‏}‏ ‏[‏نُوحٍ‏:‏ 17‏]‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏آلَ عِمْرَانَ‏:‏ 37‏]‏، وَ“ النَّبَاتُ“‏:‏ مَصْدَرُ “ نَبَتَ“‏.‏ وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِمَجِيءِ “ أَنْبَتَ “ قَبْلَهُ، فَدَلَّ عَلَى الْمَتْرُوكِ الَّذِي مِنْهُ قِيلَ “ نَبَاتًا“، وَالْمَعْنَى‏:‏ “وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ فَنَبَتُّمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا“‏.‏ وَلَيْسَ ‏[‏فِي‏]‏ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ كَلَامًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَهَّمًا بِهِ أَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ بِنَائِهِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ “وَيَتَثَبَّتُونَ فِي وَضْعِ الصَّدَقَاتِ مَوَاضِعَهَا“، فَيُصْرَفُ إِلَى الْمَعَانِي الَّتِي صُرِفَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا‏}‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ المَصَادِرِ الْمَعْدُولَةِ عَنِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَةٌ قَبْلَهَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏، احْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ احْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا بَعِيدُ الْمَعْنَى مِنْمَعْنَى “ التَّثْبِيتِ “لِأَنَّ التَّثْبِيتَ لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنَ الكَلَامِ بِمَعْنَى “ الِاحْتِسَابِ“، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مُفَسِّرُهُ كَذَلِكَ‏:‏ أَنَّ أَنْفُسَ الْمُنْفِقِينَ كَانَتْ مُحْتَسِبَةً فِي تَثْبِيتِهَا أَصْحَابَهَا‏.‏ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَلَيْسَ الِاحْتِسَابُ بِمَعْنًى حِينَئِذٍ لِلتَّثْبِيتِ، فَيُتَرْجَمُ عَنْهُ بِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏265‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ وَعَزَّ‏:‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ، فَيَتَصَدَّقُونَ بِهَا، وَيُسَبِّلُونَهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَنٍّ عَلَى مَنْ تَصَدَّقُوا بِهَا عَلَيْهِ، وَلَا أَذًى مِنْهُمْ لَهُمْ بِهَا، ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ وَتَصْدِيقًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِوَعْدِهِ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ‏}‏‏.‏

وَ “ الْجَنَّةُ“‏:‏ الْبُسْتَانُ‏.‏ وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ “ الْجَنَّةَ “ الْبُسْتَانُ، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ مِنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

‏(‏بِرَبْوَةٍ‏)‏ وَالرَّبْوَةُ مِنَ الْأَرْضِ‏:‏ مَا نَشَزَ مِنْهَا فَارْتَفَعَ عَنِ السَّيْلِ‏.‏ وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لِأَنَّ مَا ارْتَفَعَ عَنِ الْمَسَايِلِ وَالْأَوْدِيَةِ أَغْلَظُ، وَجِنَانُ مَا غَلُظَ مِنَ الْأَرْضِ أَحْسَنُ وَأَزْكَى ثَمَرًا وَغَرْسًا وَزَرْعًا، مِمَّا رَقَّ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ فِي وَصْفِ رَوْضَةٍ‏:‏

مَـا رَوْضَـةٌ مِنْ رِيَاضِ الْحَزْنِ مُعْشِبَةٌ خَـضْرَاءُ جَـادَ عَلَيْهَـا مُسْـبِلٌ هَطِلُ

فَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا مِنْ رِيَاضِ الْحُزْنِ، لِأَنَّ الْحُزُونَ‏:‏ غَرْسَهَا وَنَبَاتَهَا أَحْسَنُ وَأَقْوَى مِنْ غُرُوسِ الْأَوْدِيَةِ وَالتِّلَاعِ وَزُرُوعِهَا‏.‏

وَفِي “ الرَّبْوَةِ “ لُغَاتٌ ثَلَاثٌ، وَقَدْ قَرَأَ بِكُلِّ لُغَةٍ مِنْهُنَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَرَأَةِ، وَهِيَ “ رُبْوَةٌ “ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَبِهَا قَرَأَتْ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ‏.‏

وَ “ رَبْوَةٌ “ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَبِهَا قَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَيُقَالُ إِنَّهَا لُغَةٌ لِتَمِيمٍ‏.‏ وَ“ رِبْوَةٌ “ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَبِهَا قَرَأَ-فِيمَا ذُكِرَ- ابْنُ عَبَّاسٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدِي أَنْ يُقْرَأَ ذَلِكَ إِلَّا بِإِحْدَى اللُّغَتَيْنِ‏:‏ إِمَّا بِفَتْحِ “ الرَّاءِ“، وَإِمَّا بِضَمِّهَا، لِأَنَّ قِرَاءَةَ النَّاسِ فِي أَمْصَارِهِمْ بِإِحْدَاهُمَا‏.‏ وَأَنَا لِقِرَاءَتِهَا بِضَمِّهَا أَشَدُّ إِيثَارًا مِنِّي بِفَتْحِهَا، لِأَنَّهَا أَشْهَرُ اللُّغَتَيْنِ فِي الْعَرَبِ‏.‏ فَأَمَّا الْكَسْرُ، فَإِنَّ فِي رَفْضِ الْقِرَاءَةِ بِهِ، دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ‏.‏

وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ “ الرَّبْوَةُ “ لِأَنَّهَا “ رَبَتَ “ فَغَلُظَتْ وَعَلَتْ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “رَبَا هَذَا الشَّيْءُ يَرْبُو“، إِذَا انْتَفَخَ فَعَظُمَ‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍوقَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ الرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الظَّاهِرُ الْمُسْتَوِي‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ هِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْمُرْتَفِعَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ‏}‏ يَقُولُ بِنَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ‏}‏ وَالرَّبْوَةُ‏:‏ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الَّذِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ، وَالَّذِي فِيهِ الْجِنَانُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏بِرَبْوَةٍ‏)‏، بِرَابِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ‏.‏

حُدِّثْنَا عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ‏}‏، وَالرَّبْوَةُ النَّشَزُ مِنَ الْأَرْضِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الَّذِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ‏.‏

وَكَانَ آخَرُونَ يَقُولُونَ‏:‏ هِيَ الْمُسْتَوِيَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ هِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الَّتِي تَعْلُو فَوْقَ الْمِيَاهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَصَابَهَا وَابِلٌ‏}‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ أَصَابَ الْجَنَّةَ الَّتِي بِالرَّبْوَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَابِلٌ مِنَ المَطَرِ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْعَظِيمُ الْقَطْرِ مِنْهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي الْجَنَّةَ‏:‏ أَنَّهَا أَضْعَفُ ثَمَرِهَا ضِعْفَيْنِ حِينَ أَصَابَهَا الْوَابِلُ مِنَ المَطَرِ‏.‏

و “ الْأُكُلُ“‏:‏ هُوَ الشَّيْءُ الْمَأْكُولُ، وَهُوَ مِثْلُ “ الرُّعْبِ وَالْهُزْءِ“، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَأْتِي عَلَى “ فُعْلٍ“‏.‏ وَأَمَّا “ الْأُكُلُ “ بِفَتْحِ “ الْأَلِفِ “ وَتَسْكِينِ “ الْكَافِ“، فَهُوَ فِعْلُ الْآكِلِ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ “أَكَلْتُ أَكْلًا وَأَكَلْتُ أُكْلَةً وَاحِدَةً“، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَمَـا أُكْلَـةٌ إِنْ نِلْتُهـا بِغَنِيمَـةٍ *** وَلَا جَوْعَـةٌ إِنْ جُعْتُهَـا بِغَـرَامِ

فَفَتَحَ “ الْأَلِفَ“، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ‏.‏ وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ “وَلَا جَوْعَةَ“‏.‏ وَإِنْ ضُمَّتِ الْأَلِفُ مِنَ “ الْأُكْلَةِ “ كَانَ مَعْنَاهُ‏:‏ الطَّعَامُ الَّذِي أَكَلْتَهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ حِينَئِذٍ‏:‏ مَا طَعَامٌ أَكَلْتُهُ بِغَنِيمَةٍ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏}‏ فَإِنَّ “ الطَّلَّ“، هُوَ النَّدَى وَاللَّيِّنُ مِنَ المَطَرِ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏(‏فَطَلٌّ‏)‏ نَدَى عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ أَمَّا “ الطَّلُّ“، فَالنَّدَى‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏}‏، أَيْ طَشٌّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ‏:‏ ‏(‏فَطَلٌّ‏)‏ قَالَ‏:‏ الطَّلُّ‏:‏ الرَّذَاذُ مِنَ المَطَرِ، يَعْنِي‏:‏ اللَّيِّنُ مِنْهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ ‏(‏فَطَلٌّ‏)‏ أَيْ طَشٌّ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهَذَا الْمَثَلِ‏:‏ كَمَا ضَعَّفْتُ ثَمَرَةَ هَذِهِ الْجَنَّةِ الَّتِي وَصَفْتُ صِفَتَهَا حِينَ جَادَ الْوَابِلُ، فَإِنْ أَخْطَأَ هَذَا الْوَابِلُ، فَالطَّلُّ كَذَلِكَ‏.‏ يُضَعِّفُ اللَّهُ صَدَقَةَ الْمُتَصَدِّقِ وَالْمُنْفِقِ مَالَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ مَنٍّ وَلَا أَذًى، قَلَّتْ نَفَقَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، لَا تَخِيبُ وَلَا تُخْلِفُ نَفَقَتُهُ، كَمَا تُضَعَّفُ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتهَا، قَلَّ مَا أَصَابَهَا مِنَ المَطَرِ أَوْ كَثُرَ لَا يُخْلَفُ خَيْرُهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ كَمَا أَضْعَفْتُ ثَمَرَةَ تِلْكَ الْجَنَّةِ، فَكَذَلِكَ تُضَاعَفُ ثَمَرَةُ هَذَا الْمُنْفِقِ ضِعْفَيْنِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏}‏، هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ، يَقُولُ‏:‏ لَيْسَ لِخَيْرِهِ خُلْفٌ، كَمَا لَيْسَ لِخَيْرِ هَذِهِ الْجَنَّةِ خُلْفٌ عَلَى أَيِّ حَالٍ، إِمَّا وَابِلٌ، وَإِمَّا طَلٌّ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ، قَالَ‏:‏ هَذَا مَثَلُ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ‏}‏‏.‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏}‏ وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ قَدْ مَضَى‏؟‏

قِيلَ‏:‏ يُرَادُ فِيهِ “ كَانَ“، وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَابِلُ أَصَابَهَا، أَصَابَهَا طَلٌّ‏.‏ وَذَلِكَ فِي الْكَلَامِ نَحْوَ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ “حَبَسْتُ فَرَسَيْنِ، فَإِنْ لَمْ أَحْبِسِ اثْنَيْنِ فَوَاحِدًا بِقِيمَتِهِ“، بِمَعْنَى‏:‏ “إِلَّا أَكُنْ “- لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ “ كَانَ“، لِأَنَّهُ خَبَرٌ‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

إِذَا مَـا انْتَسَـبْنَا لَـمْ تَلِـدْنِي لَئِيمَـةٌ *** وَلَـمْ تَجِـدِي مِـنْ أَنْ تُقِـرِّي بِهَا بُدًّا

تفسير الآية رقم ‏[‏265‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ أَيُّهَا النَّاسُ، فِي نَفَقَاتِكُمُ الَّتِي تُنْفِقُونَهَا ‏(‏بَصِيرٌ‏)‏، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا وَلَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا شَيْءٌ، يَعْلَمُ مَنِ الْمُنْفِقُ مِنْكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَالْمُنْفِقُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ نَفْسِهِ، فَيُحْصِي عَلَيْكُمْ حَتَّى يُجَازِيَ جَمِيعَكُمْ جَزَاءَهُ عَلَى عَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا‏.‏

وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهَذَا الْقَوْلِ جَلَّ ذِكْرُهُ، التَّحْذِيرَ مِنْ عِقَابِهِ فِي النَّفَقَاتِ الَّتِي يُنْفِقُهَا عِبَادُهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ مَا قَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، أَوْ يُفَرِّطَ فِيمَا قَدْ أُمِرَ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَرْأًى مِنَ اللَّهِ وَمَسْمَعٍ، يَعْلَمُهُ وَيُحْصِيهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ لِخَلْقِهِ بِالْمِرْصَادِ‏.‏